الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عاشور: وجملة: {إنكم لتأتون الرجال}.مبيّنة لجملة {أتأتون الفاحشة}، والتّأكيد بإنّ واللاّم كناية عن التّوبيخ لأنّه مبني على تنزيلهم منزلة من ينكر ذلك لكونهم مسترسلون عليه غير سامعين لنهي النّاهي.والإتيان كناية عن عمل الفاحشة.وقرأ نافع، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر: {إنكم} بهمزة واحدة مكسورة بصيغة الخبر، فالبيان راجع إلى الشيء المنكَر بهمزة الإنكار في {أتأتون الفاحشة}، وبه يعرف بيان الإنكار، ويجوز اعتباره خبرًا مستعملًا في التّوبيخ، ويجوز تقدير همزة استفهام حذفت للتّخفيف ولدلالة ما قبلها عليها.وقرأه البقيّة: {أإنّكم} بهمزتين على صِيغة الاستفهام فالبيان للإنكار، وبه يعرف بيان المنكرَ، فالقراءتان مستويتان.والشّهوة: الرّغبة في تحصيل شيء مرغوب، وهي مصدر شَهِي كرضى، جاء على صيغة الفَعْلة وليس مرادًا به المرة.وانتصب {شهوة} على المفعول لأجله.والمقصود من هذا المفعول تفظيع الفاحشة وفاعِليها بأنّهم يشتهون ما هو حقيق بأن يُكره ويستفظع.وقوله: {من دون النساء} زيادة في التّفظيع وقطععِ للعذر في فعل هذه الفاحشة، وليس قيدًا للإنكار، فليس إتيان الرّجال مع إتيان النّساء بأقلّ من الآخر فظاعة، ولكن المراد أنّ إتيان الرّجال كلّه واقع في حالة من حقّها إتيان النّساء، كما قال في الآية الأخرى: {وتذَرون ما خلق لكم ربّكم من أزواجكم} [الشعراء: 166].و{بل} للاضراب الانتقالي، للانتقال من غرض الإنكار إلى غرض الذمّ والتّحقير والتّنبيه إلى حقيقة حالهم.والإسراف مجاوزة العمل مقدار أمثاله في نوعه، أي المُسرفون في الباطل والجرم، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {ولا تأكلوها إسرافًا} في سورة النّساء (6) وعند قوله تعالى: {ولا تسرفوا إنه لا يحبّ المسرفين} في سورة الأنعام (141).ووصفُهم بالإسراف بطريق الجملة الاسميّة الدّالة على الثّبات، أي أنتم قوم تمكَّن منهم الإسراف في الشّهوات فلذلك اشتهوا شهوة غريبة لما سئموا الشهوات المعتادة.وهذه شنشنة الاسترسال في الشّهوات حتّى يصبح المرء لا يشفي شهوته شيء، ونحوه قوله عنهم في آية أخرى: {بل أنتم قوم عادون} [الشعراء: 166].ووجه تسمية هذا الفعل الشّنيع فاحشة وإسرافًا أنّه يشتمل على مفاسد كثيرة: منها استعمال الشّهوة الحيوانية المغروزة في غير ما غرزت عليه، لأنّ الله خلق في الإنسان الشّهوة الحيوانيّة لإرادة بقاء النّوع بقانون التّناسل، حتّى يكون الدّاعي إليه قهري ينسَاق إليه الإنسان بطبعه، فقضاء تلك الشّهوة في غير الغرض الذي وضعها الله لأجله اعتداء على الفطرة وعلى النّوع، ولأنّه يغير خصوصية الرُجلة بالنّسبة إلى المفعول به إذ يصير في غير المنزلة التي وضعه الله فيها بخلقته، ولأنّ فيه امتهانًا محضًا للمفعول به إذ يُجعل آلة لقضاء شهوة غيره على خلاف ما وضع الله في نظام الذّكورة والأنوثة من قضاء الشّهوتين معًا، ولأنّه مفض إلى قطع النّسل أو تقليله، ولأنّ ذلك الفعل يجلب أضرارًا للفاعل والمفعول بسبب استعمال محليّن في غير ما خلقا له.وحدثت هذه الفاحشة بين المسلمين في خلافة أبي بكر من رجل يسمّى الفجَاءة، كتب فيه خالد بن الوليد إلى أبي بكر الصّدّيق أنّه عمل عمل قوم لوط وإذ لم يُحفظ عن النّبيء صلى الله عليه وسلم فيها حدّ معروف جمع أبو بكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واستشارهم فيه، فقال عليّ: أرى أن يحرق بالنّار، فاجتمع رأي الصّحابة على ذلك فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه فأحرقه، وكذلك قضى ابن الزّبير في جماعة عملوا الفاحشة في زمانه، وهشام بن الوليد، وخالد القَسري بالعراق، ولعلّه قيَاس على أنّ الله أمْطر عليهم نارًا كما سيأتي.وقال مالك: يرجم الفاعل والمفعولُ به، إذا أطاع الفاعلَ وكانا بالغين، رَجْمَ الزّاني المحصن.سواء أُحصنا أم لم يُحصنا، وقاس عقوبتهم على عقوبة الله لقوم لوط إذ أمطر عليهم حجارة، والذي يؤخذ من مذهب مالك أنّه يجوز القياس على ما فعله الله تعالى في الدّنيا.وروي أنّه أخذ في زمان ابن الزّبير أربعةٌ عمِلوا عمل قوم لوط، وقد أُحصنوا.فأمر بهم فأخرجوا من الحرم فرجموا بالحجارة حتّى ماتوا، وعنده ابنُ عمر وابنُ عبّاس فلم ينكرا عليه.وقال أبو حنيفة: يعزّر فاعله ولا يبلغ التّعزير حدّ الزّنى، كذا عزا إليه القرطبي، والذي في كتب الحنفيّة أنّ أبا حنيفة يرى فيه التّعزير إلاّ إذا تكرّر منه فيقتل، وقال أبو يوسف ومحمّد: فيه حدّ الزّنى، فإذا اعتاد ذلك ففيه التّعزير بالإحراق، أو يهدم عليه جدار، أو ينكس من مكان مرتفع ويتبع بالأحجار، أو يسجن حتّى يموت أو يتوب.وذكر الغزنوي في الحاوي أنّ لأصح عن أبي يوسف ومحمّد التّعزير بالجلد أي دون تفصيل بين الاعتياد وغيره وسياق كلامهم التّسوية في العقوبة بين الفاعل والمفعول به.وقال الشّافعي: يحدّ حدّ الزّاني: فإن كان محصنًا فحدّ المحصن، وإن كان غير محصن فحدّ غير المحصن.كذا حكاه القرطبي.وقال ابن هبيرة الحنبلي، في كتاب اختلاف الأيمّة: إنّ للشّافعي قولين: أحدهما هذا، والآخر أنّه يرجم بكلّ حال، ولم يذكر له ترجيحًا، وقال الغزالي، في الوجيز: اللواط يوجب قتل الفاعل والمفعول على قول، والرّجمَ بكلّ حال على قول، والتّعزيرَ على قول، وهو كالزّني على قول وهذا كلام غير محرّر.وفي كتاب اختلاف الأيمّة لابن هبيرة الحنبلي: أن أظهر الرّوايتين عن أحمد أنّ في اللّواط الرّجم بكلّ حال، أي محصنًا كان أو غير محصن، وفي رواية عنه أنّه كالزّنى، وقال ابن حزم، في المحلى: إنّ مذهب داود وجميعَ أصحابه أنّ اللّوطي يجلد دون الحد، ولم يصرّح، فيما نقلوا عن أبي حنيفة وصاحبيْه، ولا عن أحد، ولا الشّافعي بمساواة الفاعل والمفعول به في الحكم إلاّ عند مالك، ويؤخذ من حكاية ابن حزم في المحلّى: أنّ أصحاب المذاهب المختلفة في تعزير هذه الفاحشة لم يفرّقوا بين الفاعل والمفعول إلاّ قولًا شاذا لأحَدِ فقهاء الشّافعيّة رأى أنّ المفعول أغلظ عقوبة من الفاعل.وروى أبو داود والتّرمذي، عن عكرمة عن ابن عبّاس، والتّرمذيُّ عن أبي هريرة، وقال في إسناده، مَقال عن النّبيء صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «مَن وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وهو حديث غريب لم يرو عن غير عكرمة عن ابن عبّاس وقد علمت استشارة أبي بكر في هذه الجريمة، ولو كان فيها سند صحيح لظهر يومئذ. اهـ..قال الشعراوي: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}.والإِسراف هو تجاوز الحد، والله قد جعل للشهوة لديك مصرفًا طبيعيًا منجبا، وحيث تأخذ أكثر من ذلك تكون قد تجاوزت الحد، ولقد جعل الله للرجل امرأة من جنس البشر وجعلها وعاء للإِنجاب، وتعطيك الشهوة وتعطيها أنت الشهوة، وتعطيك الإِنجاب، وتشتركان من بعد ذلك في رعاية الأولاد. وأي خروج عما حدده الله يكون الدافع إليه هو الشهوة فحسب لكي ينبغي أن يكون الدافع إلى هذه العملية مع الأنثى هو الشهوة والإنجاب معا؛ لبقاء النوع، ولذلك وصف الحق فعل قوم لوط: {... بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}. ويأتي الحق سبحانه بما أجابوا به عن سؤال سيدنا لوط: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ...}. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: .قال ابن عادل: قوله: {أإنَّكُمْ} قرأ نافعٌ وحفصٌ عن عاصم: {إنكم} على الخبر المستأنف، وهو بيان تلك الفاحشة، وقرأ الباقون بالاستفهام المقتضي للتّوبيخ، فقرأ ابنُ كثير بهمزة غير ممدودة وتليين الثَّانية، وقرأ أبُوا عمرو بهمزة ممدودة للتّخفيف وتليين الثانية، والباقون بهمزتين على الأصل.قال الواحديُّ: كان هذا استفهامًا معناه الإنكار لقوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ}، وكلُّ واحد من الاستفهامين جملة مستقلة غير محتاجة في تمامها إلى شيء آخر.قوله: {لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً} قيل: نصب {شَهْوَةٍ} على أنه مفعول من أجله، أي: لأجل الاشتِهَاءِ لا حامل لكم عليه إلاَّ مجرّد الشَّهوة لا غير.وقيل: إنَّها مصدر واقعٌ موقع الحال، أي: مشتهين أو باق على مصدريَّته، ناصبة {أتَأتُونَ}؛ لأنَّهُ بمعنى أتشتهون.ويقال: شَهِيَ يَشْهَى شَهْوَةً، وشَهَا يَشْهُو شَهْوَةٍ قال الشَّاعر: [الطويل]وقد تقدَّم ذلك في آل عمران.قوله: {مِّن دُونِ النساء} فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ:أحدها: أنَّهُ متعلق بمحذوف، لأنَّهُ حال من {الرِّجالِ} أي: أتأتونهم منفردين عن النِّساء.والثاني: أنَّهُ متعلِّق بـ {شَهْوَة}، قاله الحوفيُّ.وليس بظاهر أن تقول: اشتهيتُ من كذا، إلاَّ بمعنى غير لائق هنا.والثالث: أن يكُون صفة لـ {شهوة} أي: شهوة كَائِنَة من دونهن.قوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} {بل} للإضراب، والمشهور أنهُ إضراب انتقالٍ من قصّة إلى قصّة، فقيل: عن مذكور، وهو الإخبار بتجاوزهم عن الحدِّ في هذه الفاحشة، أو عن توبيخهم وتقريرهم، والإنكار عليهم.وقيل: بل للإضراب عن شيء مَحْذُوفٍ.واختلف فيه:فقال أبُو البقاء: تقديرُهُ: ما عَدَلْتُم بل أنتم.وقال الكَرْمَانيُّ: {بل} ردٌّ لجواب زعموا أن يكون لهم عذرًا أي: لا عذر لكم بل.وجاء هنا بصفة القوم اسم الفاعل وهو {مُسْرِفُونَ}؛ لأنَّهُ أدلُّ على الثُّبوت ولموافقة رءوس الآي؛ فإنَّهَأ أسماء.وجاء في النمل [55] {تَجْهَلُونَ} دلالة على أنَّ جهلهم يتجدد كل وقت ولموافقة رءوس الآي فإنها أفعال. .فصل في الإسراف: معنى {مُسْرِفُونَ} أي: يتجاوزون الحلال إلى الحَرَامِ.قال الحسنُ: كانوا لا ينكحون إلا الغرباء.وقال الكلبيُّ: إنَّ أوَّل من عملَ عملَ قوم لوط إبليس؛ لأنَّ بلادهم أخُصَبَتْ فانتجعها أهلُ البلدان، فتمثل لهم إبليس في صورة شابّ، ثم دعى إلى دُبرِهِ فنكح في دبره، فأمر الله تعالى السَّماءَ أن تحصبهم، والأرض أن تخسف بهم. اهـ..تفسير الآية رقم (82): قوله تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما كان كأنه قيل: هذا التقريع يوجب غاية الاستحياء، بل إنه يذهب كل من سمعه منهم إلى مكان لا يعرف فيه سترًا لحاله، فيا ليت شعري ما كان حالهم عنده! فقيل: كان كأنهم أجابوه بوقاحة عظيمة وفجور زائد على الحد، فما كان جوابهم إلا أذى لوط عليه السلام وآله بما استحقوا منهم به شديد الإنذار الذي هو مقصود السورة، عطف عليه قوله: {وما كان جواب قومه} أي الذين هم أهل قوة شديدة وعزم عظيم وقدرة على القيام بما يحاولونه {إلا أن قالوا}.ولما كان المقصود بيان أنهم أسرعوا إجابته بما ينكيه أضمر ما لا يشكل بالإضمار، أو أنه لما كان السياق لبيان الخبيث بين أنه لا أخبث من هؤلاء الذين بلغ من رذالتهم أنهم عدوا الطاهرين المتطهرين مما يصان اللسان عن ذكره فقال تعالى مشيرًا إلى ذلك في حكاية قولهم: {أخرجوهم} أي المحدث عنهم، وهم لوط ومن انضم إليه {من قريتكم} والمراد ببيان الإسراع في هذا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم من رد قومه لكلامه لئلا يكون في صدره حرج من إنذارهم، ثم عللوا إخراجهم بقولهم: {إنهم أناس} أي ضعفاء {يتطهرون} وكأنهم قصدوا بالتفعل نسبتهم إلى محبة هذا الفعل القبيح، وأن تركهم له إنما هو تصنع وتكليف لنفوسهم بردها عما هي مائلة إليه، وإقبال على الطهر من غير وجهة وإظهار له رياء بما أشار إليه إظهار تاء التفعيل، وفيه مع ذلك حرف من السخرية، وحصر جوابهم في هذا المعنى المؤدي بهذا اللفظ لا ينافي آية العنكبوت القائلة {فما كان جواب قومه إلا قالوا ائتنا بعذاب الله} [العنكبوت: 29]، لأن إطلاق الجواب على هذا يجوز، والمعنى: فما كان قولهم في جوابه إلا إتيانهم بما لا يصلح جوابًا، وذلك مضمون هذا القول وغيره مما لا يتعلق بالجواب، أو أن هذا الجواب لما كان- لما فيه من التكذيب والإيذان بالإصرار والإغلاظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم- مستلزمًا للعذب، كانوا كأنهم نطقوا به فقالوا: {ائتنا بعذاب الله}، جعل نطقهم بالسبب نطقًا بالمسبب، أو أنهم استعملوا لكل مقام مقالًا، ويؤيده أن المعنى لما اتحد هنا وفي النمل حصر الجواب في هذا، أي فما كان جوابهم لهذا القول إلا هذا؛ ولما زادهم في العنكبوت في التقريع فقال: {أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر} [العنكبوت: 29] أتوه بأبلغ من هذا تكذيبًا واستهزاء فقالوا: {ائتنا بعذاب الله}- الآية. اهـ.
|